موضوع: يوم اللغة العربية العالمي
الأربعاء 22 فبراير 2012 - 16:53
--------------------------------------------------------------------------------
لم يكن
تخصيص يوم عالمي بعنوان "يوم اللغة الأم" دون سبب، فظاهرة انقراض اللغات الأم (تتهدّد حوالي 3500 من أصل 6000 لغة ولهجة محلية عالميا) هي التي دفعت المنظمة الدولية للثقافة والعلوم والتربية إلى إعلان يوم 21/2 من كل عام ميلادي يوما عالميا للغة الأمّ، يضاف إلى ذلك ظاهرة طغيان اللغة الرسمية في كثير من البلدان على لغات بعض الأقليات، وقد يتحوّل هذا الطغيان إلى سياسة رسمية، مقترنة بأساليب ووسائل استبدادية، كفرض اللغة الرسمية وحدها في مناهج التدريس، ومنع قيام مراكز ثقافية وأدبية تستخدم لغات الأقليات وما شابه ذلك. كما ظهر للعيان، أنّ آثار هذه السياسة تشمل مختلف الميادين الثقافية والتاريخية، فيتحوّل أفراد الأقلية المعنية إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وتُقطّع الحبال بينهم وبين موروثهم الثقافي الذاتي، وقد تتطوّر المشكلة إلى أزمة، والأزمة إلى صراع دموي، وما مثال أوضاع الأكراد في تركيا ببعيد.
يوم
"اللغة الأمّ" ضرب من ضروب التذكير بأحد الميادين الرئيسية للحقوق الإنسانية الأصيلة، فلكلّ إنسان حقّ استخدام لغته الأمّ، وحقّ اعتمادها في عطائه الأدبي والثقافي، وحقّ تعليمها لأطفاله وناشئته، وحقّ استخدامها وسيلة ارتباطٍ بتاريخ قومه الثقافي الحضاري، وجميع ذلك معرّض للهدر عندما تتغلّب نزعة الهيمنة داخل بلد من البلدان على تلك الحقوق، فيُحرم أصحابها منها، والحرمانُ محضن من محاضن الكبت وأسباب الحقد ودواعي الثأر، فكأنّ من يمارسون ذلك يزرعون بأنفسهم بذور الفتنة بين مواطني بلدهم، ودواعي الصراع بين فئاته المتعدّدة، ولا يكاد يوجد بلد إلاّ وفيه أكثر من قوم وأكثر من فئة سكانية، فالظلم قائم ممتدّ على مساحة واسعة من المعمورة.
على أنّنا
في البلدان العربية نشهد صورة من "الظلم اللغوي الثقافي" ومن هدر حقوق الإنسان أبعد من كلّ ما سبق، فهنا لا يقتصر الأمر على ظلم فئات سكانية كبيرة مثل الأكراد والبربر/ الأمازيغ فحسب، بل أصبحت الممارسات اليومية شكلا من أشكال هدر حقوق الإنسان لا يكاد يوجد له مثيل في أي منطقة أخرى من مناطق المعمورة، إلاّ فيما عرفه التاريخ على حساب الهنود الحمر في نطاق إبادة وجودهم، الفعلي لا اللغوي والثقافي فقط، في قارّة كبرى بكاملها وليس في بلد واحد، إلى درجة تسميتها "العالم الجديد" وكأنّه لم يكن فيها بشر لهم حقوقهم ووجودهم من قبل.
في البلدان العربية
لا تتعرّض لغات الأقليات للاضطهاد فحسب بل أصبحت تتعرّض له اللغة العربية نفسها أيضا، أي اللغة الأمّ للأكثرية الكبرى، أضعافا مضاعفة، ليس لحساب لغات الأقليات المهدورة الحقوق أصلا، بل لحساب لغة أصبحت بحق "لغة استعمارية"، سواء بمقاييس وصف "الاستعمار الحديث" أو وصف "الاحتلال العسكري" المباشر، كما في العراق.
لم تعد الوسائل الاستعمارية
الثقافية تتمثّل في معاهد استشراق وجامعات أجنبية بل أصبح العدد الأكبر من الجامعات التي تحمل أسماء عربية هي الوسائل لفرض اللغة الإنجليزية ودعم هيمنتها على الحياة العلمية والثقافية والأدبية والتقنية والاقتصادية وسواها، وباتت اللغة العربية فيها مجرّد "لغة إضافية" لها موقع يشابه موقع لغة أجنبية في الجامعات التي تحترم نفسها في معظم بلدان العالم.
لم تعد الجهود الاستعمارية
لتطبيق قاعدة "فرّق تَسُدْ" وحدها في ميدان تمزيق الوطن الواحد إلى أقطار، والقطر الواحد إلى طوائف وتيارات ومناهج، بل بات كثيرون ممّن يعتبرون أنفسهم نخبا في مواقع صناعة القرار الثقافي والإعلامي والتربيوي المتجمهرين حول مواقع صناعة القرار السياسي، هم الذين يمارسون بأنفسهم تطبيق تلك القاعدة الاستعمارية، من خلال إصرارهم الخطير على إعطاء اللهجات المحلية مكان الصدارة ليس على سبيل رعايتها المطلوبة والمفيدة ثقافيا، بل في اتجاه إحلالها مكان اللغة العربية الأمّ الجامعة للأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها، الرابطة بينها وبين شعوب أخرى من الأمّة الإسلامية بين المحيطات الثلاث.
لم يعد المدخل إلى تدمير
الروابط الثقافية الحضارية التاريخية لشعوبنا هو محاولات تبديل الحروف الأبجدية وفرض الحروب اللاتينية كما صُنع بتركيا بعد عصر الخلافة العثمانية، بل أصبح المدخل إلى ذلك تدمير اللغة العربية نفسها، في كل ميدان من ميادين استخدامها اليومي، في المحطات الإذاعية والفضائيات، في الإعلانات التجارية وأسماء المحلات، في التصريحات الرسمية للمسؤولين السياسيين والمقابلات، في قطاع الفنون الراقية والهابطة على السواء، بل وصلت حملات هذا الغزو اللغوي الذاتي الانتحاري إلى مدارس الأطفال في السنوات الأولى من أعمار جيل المستقبل، ولئن حقّقت هذه الحملات غايتها سينشأ جيل عاجز عن استخدام لغته الأمّ في بحث علمي، أو إبداع أدبي، أو عطاء ثقافي، ولأصبح عاجزا عن مجرّد قراءة تاريخه الحضاري.
وليس صحيحا أنّ المدخل إلى
التقدم العلمي والتقني هو مدخل اللغة الأجنبية المهيمنة أكثر من سواها على الميادين العلمية والتقنية في العالم المعاصر، إذ ((لا توجد أيّ دولة في العالم انطلقت في المجال التكنولوجي دون الاعتماد على اللغة الأمّ)) على حد تعبير د. المهدي المنجرة.
وليست المشكلة في
تعلّم لغة ثانية، للتواصل الحضاري، إذا تحقّق من خلال ذلك بالفعل شعار (تفاعل لا تنازل) -وهو عنوان أحد محاور البحث في المؤتمر الدولي الأول للطفولة بين اللغة الأمّ والعصر في الدوحة 3/2006م- إنّما المشكلة أن يبقى مثل هذا الشعار شعارا، ويتحوّل تعليم اللغة الأجنبية للأطفال على أرض الواقع إلى تغييب لغتهم الأمّ، أو الهبوط بمستوى تعليمها واستخدامها إلى درجة تجعلها مهدّدة بالانقراض بعد جيل أو جيلين.
نذير خطر
إنّ هذه الهيمنة اللغوية الأجنبية أخطر على مستقبل بلادنا وقضايانا وعلاقات الأمة الواحدة ببعضها بعضا أفرادا وشعوبا، وعلاقتها بتاريخها وقدرتها على بناء مستقبلها، من جيوش استعمارية تثير تلقائيا المقاومة وتقدم التضحيات وإن تفاوت ميزان القوّة العسكرية تفاوتا كبيرا. إنّ اللغة ((هي ما بِهِ وعبْرَهُ تتحقّق التنشئة الاجتماعية للفرد وهَيْكَلَةُ وجوده الاجتماعي. هذه اللغة التي تُدخلُ الفرد في علاقة مع المجتمع تُدرِجُه في عملية مزودجة حيث يُعترَفُ له بهوية -هوية عضو داخل المجتمع- ويحصُلُ على اعتراف مقابلَ قبول قانون الجماعة. بهذا المعنى، فاللغة تحدّد البنية الرمزية للجماعة)) على حدّ تعبير الباحث اللغوي "جلبير غرانغيوم" وفق ترجمة محمد إسليم لأحد بحوثه. فإذا أصبح "المصنع الاجتماعي" للفرد والجماعة هو مصنع لغة أجنبية، هل يمكن أن ننتظر إنتاجا ثقافيا أو حضاريا متميّزا مستقلا لا يخضع للتبعية بمختلف أشكالها لمصدر تلك اللغة الأجنبية؟..
ولا يعني ما سبق إغفال وجود جهود إيجابية تُبذل في خدمة الأمّة ومستقبلها من خلال خدمة لغتها الأمّ، كحركة التعريب للمصطلحات العلمية، وما يصدر عن المجامع اللغوية، وحتى في ميدان المسلسلات التاريخية التلفازية وخاصة من الإنتاج السوري-الخليجي، ولكن جميع ذلك وأمثاله أصبح أشبه بواحات في قفر الصحراء، حتى أنّ بعض الفضائيات التي يُفترض وفق منطلقها الإسلامي أن تكون أشدّ حرصا على العربية -وهي لغة القرآن الكريم- باتت تميل مع بعض الدعاة المخلصين المعروفين إلى استخدام العامية، من أجل الوصول عبرها إلى جيل ناشئ أفسدت عليه لغتَه الأمّ السياساتُ التعليمية والثقافية والإعلامية من قبل.
لقد قطعت مسيرة التغريب اللغوي، والهيمنة الأجنبية اللغوية، أشواطا بعيدة المدى والعواقب، ولم يعد يكفي للتعامل مع هذه الظاهرة الأخطر من سواها ثقافيا وواقعا سياسيا واقتصاديا وعلميا وتقنيا، مجرّد الحديث عنها في مقالات نرصدها وهي أشبه باستغاثات مخلصة بلا صدى لدى صانعي القرار.
إنّنا في حاجة إلى خطوات عملية وجهود دائبة منظّمة متواصلة لاستدراك ما فات وصناعة مستقبل لغوي عربي كريم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك عبر جهود فردية، بل لا بدّ من التواصل والتشاور لتحديد سبل العمل وضمان استمراريته وتطويره مرحلة بعد أخرى -وهذا ممّا تستهدفه الدعوة إلى تشكيل "رابطة لغتنا العربية"- ويجب أن يتحقّق آجلا لا عاجلا من خلال مشاريع مدروسة هادفة، وتعاون من وراء الحدود والحواجز المختلفة.
إنّنا إلى جانب التذكير المتواصل لصانعي القرار في بلادنا أن يتحمّلوا المسؤولية عن لغتنا وأطفالنا وناشئتنا ومستقبلنا، ندعو بإلحاح إلى بذل كلّ جهد مدروس منظّم على مختلف المستويات غير الرسمية، وإلى سلوك كلّ سبيل ممكنة لمواجهة كارثة نراها قادمة بأخطر العواقب، ونرى بعض مقدماتها رأي العين في واقعنا الراهن.
المسؤولية كبيرة، وهي مسؤولية فردية وجماعية، على مستوى النخب والعامة، على مستوى الأُسَر والمعاهد، على مستوى وسائل الفكر والأدب والإعلام والثقافة بجميع ميادينها، ولا مجال هنا لتدافع المسؤولية، فالعواقب تشمل الجميع، والمخاطر أصبحت تتربّص بمستقبلنا داخل بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ووسائل فكرنا وإعلامنا في جميع بلداننا العربية بلا استثناء.
كاتبة الموضوع البرنسيسه سماهر (نقل وتعديل الى صفحة اللغة العربية المعلمه امل عقروق)